قصة شخص لا يشيب، الجزء الثالث والأخير الكشف عن هوية عماد والمهمة الأساسية التي قدم للشركة لأجلها.
شخص لا يشيب |
قصة شخص لا يشيب ولحظة الافاقة
وقف قليلاً ينظر إلى جهازه الخلوي وهو يرن واجتاحته أنواع من المشاعر الغريبة!
كأن سعادة ما تسللت إلى نفسه إذ أن عماد بنفسه يتصل به ويهاتفه.. عماد ذو الشخصية المتفردة ..
بينما كان للخوف والارتباك شيء من حتى في نفسه، خاصة بعد أن أمسك به عماد متلبساً يفتش درج مكتبه..!!
أسئلة ليس لها إجابة جعلت من توجهه إلى هاتفه بطيئاً متذبذباً ..
"الو"
" نعم فؤاد.. لماذا لا ترد سريعاً!"
يسكت فؤاد لوهلة قصيرة حيث أن أسلوب الشخص الذي يحدثه على سماعة الهاتف الخلوي بدا مألوفاً..
أخذ فؤاد مساحة من التنفس ليستعيد ذاكرته ويدرك أن المتصل عماد لم يكن زميله في الشركة إنما عماد جاره في ذات العمارة.
تنفس بعمق ليسترد وهجه الذي ذبل فجأة وتحدث بصوت مرتبك:
"اها.. مرحباً عماد.. ظننتك شخصاً آخر يدعى عماد ايضاً.."
كان الجار عماد متلعثماً في طلبه لكنه بدا مضطراً:
"اريد منك خدمة بسيطة وأخشى أن تردني"
أجاب فؤاد بحماس على غير عادته:
"تفضل إن استطعت فلن اردك".
تشجع الجار عماد:
"زوجتي مريضة والوقت بات متأخراً فهلا ساعدتني في إسعافها بسيارتك!"
رحب فؤاد على الفور واتجه لارتداء ثيابه لتستيقظ زوجته وتسأله في تعجب من أمر سهره حتى ساعة متأخرة من الليل:
"إلى أين أنت ذاهب؟"
أجابها بأسلوب أعادها خمسة عشر عاماً إلى الماضي:
"زوجة عماد تحتاج إلى إسعاف وقد طلب مني المساعدة".
وأخذ مفاتيحه واسرع إلى الخارج في ظل ذهول زوجته التي لم تألفه على تلك الحالة من روح المبادرة والتعاون منذ فترة طويلة.
شعرت بأن شيئاً ما قد تغير في زوجها تغيراً جذرياً ففؤاد منذ فترة طويلة لم يجلس معهم على سفرة العشاء بل اعتاد على تناول عشائه بعيداً عن ضجيج الأطفال.
فؤاد الذي اكتسب كل العادات السيئة بالتدريج يتعرض إلى إفاقة مفاجأة ونوع من التراجع باتجاه الروح والفطرة، فؤاد الذي يصمت البيت كله حال حضوره.
يدخل غرفة بناته ويجلس معهن على غير العادة ويتبادل معهن الحكايات ويحكي لهن بعض إخفاقاته في أيام دراسته على غير عادته.
كان يوماً مختلفاً كله مفاجات ينتهي بانطلاقة ليلية لاسعاف زوجة جارهم عماد وكانت تلك الأعجوبة الأكبر بالنسبة لسعاد زوجة فؤاد!
وفي الصباح الباكر، استيقظت سعاد على صوت المنبه كعادتها تنزع جسدها المثقل بالتعب باتجاه المطبخ لتجد زوجها يقف في المطبخ يجهز السندوتشات للأولاد وكانت تلك بمثابة صدمة كبيرة!
اقتربت من ابنتها لبنى وهمست:
"أنا خائفة، لا بد أن أباك يودع!"
سدت لبنى على فمها بكفها خشية أن تتسلل ضحكتها إلى أذنه خلسة فتقع الكارثة.
شخص لا يشيب |
قصة شخص لا يشيب ولحظة الإفاقة
ابتسم فؤاد وهو يسمع ذلك الهمس كأزيز النحل الخجول فنادى أولاده محاولاً استرداد الجو العائلي الدافئ لكنه وجد نظراتهم إليه تبوح بما يحجبه صمتهم من الدهشة والتعجب!
جلس الجميع على طاولة الإفطار في سعادة وحيرة فالوضع بدا وكأن فؤاد يصحح ذنباً ما قد أخفاه عنهم أو يمهد لخبر صادم!
فؤاد المقدس الذي يتفانى أهل البيت في تلبية احتياجاته يعد السندوتشات ويتحدث بلطف.. يا للغرابة!
لكن ذلك الصمت لم يدم طويلاً فقد انفجرت سعاد كالقنبلة الموقوتة عندما رأته يتجهز لإيصال بناته إلى مدارسهن:
"مالك يا رجل! هل فحوصاتك الأخيرة سليمة! سألتك بالله ألا صارحتني"
شعر الجميع بالخوف على صحة أبيهم وظنوا كل الظن أنه مصاب بمرض خطير جعل منه يتراجع عن قسوته وعصبيته تلك ويحاول أن يكمل حياته في سعادة معهم.
بينما كان ابن فؤاد المراهق يحاول استفزاز والدته ما بين الحين والآخر:
"لقد اكتملت العلامات، إنها الزوجة الثانية"
تأمل فيها فؤاد ولمح في عينيها الخوف على صحته وتلك الرجفة التي غزت جسدها كأنها تقف في درجة حرارة عشرة تحت الصفر وأدرك كم كان قاسياً ومتعجرفاً وسلبياً مع نفسه ومع أهل بيته.
ابتسم و بشيء من الحيرة المصطنعة:
"من يراكم يقول أنكم لم تعتادوا مني على خير قط"
اقتربت منه ابنته لبنى بدلال البنات واحتضنته مدللة أبيها:
"أنت أطيب أب في العالم ونعلم أن إرهاق العمل هو ما أخذك منا.. فقط نحن لم نعتد عليك هكذا"
واخذت تسحبه إلى الخارج:
"مالك وعائلة القطط هذه موعد الطابور قد بدأ"
كان فؤاد يضحك لكن مشاعراً من الحزن تسللت إلى قلبه متجهاً بيعينيه إلى زوجته المصدومة وقد لاح له أن عائلته لم تعد تستوعب تعاملاً لطيفاً منه... هنا فقط أدرك أنه قد ابتعد عن الحياة كثيراً؟
وصل فؤاد إلى الشركة متأخراً ولأول مرة واقترب ليوقع سجل الحضور فهمست نوال:
"وقع بسرعة ثم اذهب إلى مكتبك فلم ينتبه المدير بعد لتأخيرك"
شخص لا يشيب |
قصة شخص لا يشيب وانطفاء الإيجو
"يبدو أن المعركة كانت حامية الوطيس"
اقترب منها فؤاد وقال لها متأثراً من مزاحها الثقيل مدافعاً على نفسه:
"من قال لك اني ممن يضربون النساء "
فاجابته تحاول استفزازه:
"نعم مثلك لا يضرب .. مثلك ينطح .. "
احتار في رد مناسب عليها فهي لا تتأثر بسهولة ولديها مهارة عالية في الاستفزاز وتستطيع بكل براعة أن تجعل من خصمها اضحوكة الشركة بأكملها فتركها اتقاء لجنونها وانصرف باتجاه عميل قادم لينظر في أمره فانطلقت ارشيفة باتجاه نوال:
"قلت لك أنه تاب .. أكاد أجزم أنه غسل وجهه اليوم! "
ضحكت نوال وجذبتها برفق وقالت لها بصوت منخفض:
"اعتقد أن عماد قد حرك المياه الراكدة.. توقعي تنافساً عملياً في الأيام المقبلة"
نظرت إليها أرشيفة نظرة غبية وأجابت:
"هل ستبقى الشركة على ما يرام؟ "
ضحكت نوال :
"بل أفضل إن شاء الله"
تمتمت هدى وهي تلعب بكل شيء على مكتب نوال, الاوراق والأقلام وحتى الالة الحاسبة:
"أصدقك...فأنت مشعوذة وتملكين بلورة المستقبل"
قدم المدير من الممر وعيناه مثبتتان على أرشيفة فانطلقت إلى مكتبها فناداها بصوت عالٍ:
"يبدو أنك مريضة بالسكر يا هدى"
فاخذت تبرر له:
"لا هذه المرة كنت أبحث عن قلمي على مكتب نوال نسيته عندما وقعت"
دخل مكتبه وأجرى اتصالاً بنوال وطلب منها أن تطلب من هدى الحضور إلى مكتبه فوراً.
شعرت نوال بالقلق على هدى وخافت أن يعاقبها المدير بنوع من الخصم أو العمل الاضافي.. ذهبت إليها وحذرتها بوجل:
"لقد أكثرت من الخروج من مكتبك وترك عملك اذهبي وحاولي خلق أي عذر لعله يتقبله "
وفي المكتب سال المدير ارشيفة:
"كيف تجري الأمور استاذة هدى؟"
ترد هدى بجدية:
"يبدو أن عماد يقوم بعمله على أكمل وجه"
فسألها وكأن لها صلة مباشرة في كل ما يحدث في الشركة:
"هل لاحظت اشتعال الغيرة في باقي الموظفين؟"
ابتسمت وبمكر واضح:
"نعم خاصة البائس فؤاد، لقد تغير180 درجة."
اسند المدير ظهره إلى الكرسي باطمئنان تام:
"حسناً غداً إن شاءالله سنقوم بالخطوة التالية وهي الأهم".
خرجت هدى من المكتب مضطربة فنادتها نوال بهمس:
"بسسس ...ما الذي حدث معك ايتها المجنونة"
تظاهرت هدى أن توبيخاً قد جرى عليها واتجهت إلى مكتبها وبدأت بترتيب الأوراق فعلمت نوال أنها لن ترد وهي في تلك الحالة فقررت تركها حتى تهدئ قليلاً.
وفي اليوم التالي شاع في الشركة أن عماد قد أصيب بوعكة صحية سافر على إثرها إلى أمريكا للعلاج وأن وظيفته باتت شاغرة وأن المدير مضطر لتوظيف أحد من الشركة في مكانه ريثما يجد شخصاً مناسباً.
شعر الجميع بالسعادة وقد انزاح عماد عن ذلك الكرسي الثمين وتوقع كلاً منهم أن يأخذ هو مكانه.
وبدأ الجميع من اليوم الثاني مباشرة بالحضور مبكراً وارتداء أفضل ما لديهم وانتظمت الشركة لتبدو كعقارب ساعة تسير في تناغم بمنتهى الدقة.
بينما تغير فؤاد تغيراً جذرياً، فلم يبدو مهتماً بالوظيفة مثل كل مرة ولا بالمال بل بدى مهتماً في جعل وقته كله جميل.
لاحظت ارشيفة أنه لا يقوم إلا بعمله ويقوم به باتقان مطلق، وبدا بتزيين مكتبه وأحضر زوجاً من العصافير إلى مكتبه، وضع صورة أحد أطفاله على طاولة المكتب وبدا مهتماً جداً بكل تفاصيل حياته.
يحضر باكراً وينصرف باكراً ليتناول الغداء مع أسرته، بل أنه طلب من الشركة أن تعطيه إجازة لمدة اسبوع ليستجم ويستعيد نشاطه!
اقتربت هدى من المدير باهتمام :
"اعتقد أن فؤاد جاهز لوظيفة العلاقات العامة.. فقد بات أكثر حيوية من قبل وعمله صار أكثر إتقاناً بل أنه صار أقل مزاجية من قبل"
فأجابها المدير وهو مبتسم يحضر بعض الأوراق المهمة:
"تلك الوظيفة تسمى منصب الديك"
ضحكت أرشيفة وقالت بثقة:
"ألم أقل لك أن فؤاد هو خير من يقوم بها.. كان فقط يحتاج لمن يضبط بوصلته ليعد إلى ابداعه من جديد"
التفت إليها وأخذ نفساً عميقاً ثم أجابها:
"نعم .. من ينسى نفسه ويدفنها في الحياة لن يسقي شجرة أو يعتني بها .. السعداء فقط هم من ينشرون السعادة يا هدى أما فاقد الشيء لا يعطيه..
والشركة تحتاج لاشخاص يجيدون فن الحياة, لا تحتاج لمن يرغب في الموت لذلك جئنا بالديك عماد ليذكرهم بأن البناء لا يتم بأياد منهدمة"
ثم أخذ أوراقه وانصرف وقبل أن يخرج اشار إليها بسبابته:
"سيزور الشركة غداً وفد صيني لعقد أكبر اتفاقية في تاريخ الشركة"
أجابته واثقة من انجازها:
"الجميل أن الشركة تبدو أخيراً كخلية نحل.. "
كان الجميع في الشركة يطمعون بمنصب الديك ذاك الذي يحوز صاحبه على أعلى راتب في الشركة بينما قررت هدى توظيف فؤاد فيه.
إذ أن أرشيفة كانت تعمل كمراقبة سرية لسير العمل في الشركة وهي صاحبة القرار الأول في التوظيف.
ممتنة لكل من قرأ وجل امتناني لمن وصلته الرسالة..
( من يبتعدون عن الحياة, لا تقترب هي منهم.. ليس عليك أن تصبح شخص لا يشيب إنما روح متجددة كماء النهر..)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اقرأ ايضاً
انقر هنا لتقرأ رواية هرار الرماد الجزء الأول
انقر هنا لقراءة بيننا حكاية لم تنتهي
ــــــــــــــ تم ــــــــــــــــــ