الخوف والتغيير النفسي |
سورة يوسف و الخوف كمتغير نفسي فيها
سورة يوسف وعناية الباحثين، إن البحث في القرآن الكريم هو بحث في معين لا ينضب من المعرفة والعلم والتدبر .
وأن التأمل في مضامينه والتذوق الجمالي في نسقه الخاص بالجانب القصصي أو السردي هو أفق عال يقدم العديد من الصور التي تتيح للنفس فرصة السمو بالفكر والمشاعر للوصول إلى حالة من الاستقرار والتوازن والقوة.
ومن سور القرآن الكريم التي نالت عناية الباحثين و الدارسين سورة يوسف؛ فقد كتبت فيها عشرات الدراسات والبحوث التي تناولت تفسير آياتها ودراسة القيم الأخلاقية والأبعاد الاجتماعية والاقتصادية.
والدلالات النفسية فيها والبناء الفني لقصتها؛ لذا كانت السورة موضع تأملات هذه المقالة وغاية تبصرها؛ فالمتعارف عليه أن القصة في القرآن الكريم تأتي عادة للبناء والتوجيه و التربية.
وتكون قادرة على استثارة العواطف والانفعالات" وتمثل المواقف؛ مما يتيح للعظة والعبرة قضاء واسعا غير محدد بظرفية زمنية خاصة
" لَقَدْ كَانَ في قَصَصهيمْ عِبْرةٌ لأولي الألباب مَا كَانَ حَدِيثاً يُفتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بين يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَ شَيْءٍ وَهُدَى ورحمة لِقَوْم يُؤْمِنُونَ" .
وضمن هذه المعطيات تأتي الدروس الربانية بالابتلاءات ليتشكل منها إعدادا خاصا للأنبياء والدعاة و المصلحين فيه تثبيت وطمأنينة وبث للتفاؤل واستخلاص للعبر
" قال تعالى : وَكُلَّا نَقْصُ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسُلٍ مَا نثبت بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ في هذه الْحَقٌ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ"
فقد جاءت سورة يوسف تحمل قصة إنسانية بطلها النبي يوسف و دارت فيها أحداث عظام عانى فيها صنوفًا من المحَن والابتلاءات حملتها مشاهِدُ الابتلاء والألم والأمل.
وحكايةٌ اليأس واليقين والرجاء والدعاءٌ، ومرارة الفراق وحلاوة اللقاء والظلم والقهر والانتقامُ والعفؤٌ و الصفح والتمكينُ والصبر، ثم النجاح والنصر.
وتركز التأملات الحالية للمقالة في منظورها على مفردتي (الخوف والحيلة) ومفهومهما اللغوي والاصطلاحي وارتباطهما معا ويعني الخوف لغة: الفزع والخشية والقتل. أما الحيلة فمن التَّحيّل والاحتيال. وهو الحذق وجودة النظر والقدرة على دقة التصرف".
ويعرف الخوف اصطلاحا أنه اضطراب يصيب القلب وحركته من تذٌكر المخوف. وهرب القلب من حلول المكروه عند استشعاره ". وهو سلوك يتميز بصبغة انفعالية غير سارة تصحبه ردود فعل حركية مختلفة نتيجة توقع مكروه ".
وبهذا المفهوم يختلف الخوف عن مفهوم الخشية التي تعد درجة عالية من الخوف. تنتج عن معرفة وتعظيم للمخوف ومنزلته مما يستتبع توقيه.
سورة يوسف وعلماء النفس
لذلك يرى علماء النفس أن الخوف ظاهرة طبيعية أو سوية ولا يدل على أي اضطراب نفسي أو انحراف في الشخصية. طالما أن هناك أسبابً معقولة له.
وأن مستوى الخوف الذي يبديه الشخص الخائف يتناسب مع حجم المثير المخوف والخوف في حد ذاته ليس شيئًا رديئا يجب القضاء عليه.
أو يجب الاستغناء عنه تمامًا في مجالات التربية والمجالات الاجتماعية.
ثنائية الخوف والحيلة في سورة يوسف:
تنطلق ثنائية الخوف والحيلة في سورة يوسف من موضع الخوف الأول والكيد الأول "الرؤيا والغيرة" ذلك الخوف الذي غزا قلب الفتى الصغير يوسف بعد أن رأى في منامه ما أفزعه.
فهرع إلى أحضان والده النبي يعقوب باحثا عن الحنان والأمان وباثا مخاوفه واضطرابه "يَا أَبَتِ إني رَأيْتُ أحَد عَشَرَ كَوْكَبَا وَالشَّمْس وَالْفَمَرَ رأَيْتهُمْ لي سَاجِدِينَ".
ويظهر في ندائه يا أبت قدراً كبيراً من الخوف قابله خوف أكبر لدى الأب ؛ لأنه أدرك تأويل الرؤيا وأدرك أن وراءها شأنا عظيما".
وفيها ثمة رسالة تقول أن وراء ما تشعر به من الخوف أمر عظيم سيتحقق مع الأيام القادمة. وهذا خوف داخلي فيه حكمة عظيمة مفادها أن الحذر من حسد الآخرين وخاصة المقربين منهم وحقدهم على النعم لا يثير كراهيتهم.
بهذا الوعي طلب يعقوب النبي من ابنه يوسف كتمان رؤياه عن أقرب الناس له. وهم إخوته خوفاً من حسدهم ولثقته بما سيكون عليه من كمال عقله وصفاء السريرة ومكارم الأخلاق "قَالَ يَا بُنيَ لا تَقصص رُؤْيَاكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا".
وجاء تركيزه على الكيد لمعرفته أطباع أبنائه النفسية ونظرتهم لأخيهم يوسف، وكأن شعوراً يقينياً عنده أكده لفظياً ومعنوياً يقول أن الكيد والحيلة ستكون قناع غيرتهم؛ وفي الوقت نفسه فقد أخفى يوسف خوفه.
وأطاع أمر والده على الرغم من صغر سنه مؤمنا " إِنَّ الشَيْطَان للإنسان عدو مبين".
اقرأ مقال عن فتيات الراديوم المأساة والانتصار والنضال من أجل حقوق العمال
وما ترتب على هذا التحول في علاقة يوسف بأبيه انسياب مشاعر الخوف إلى نفوس إخوة يوسف عليه السلام كما انسابت إلى قلب يعقوب عليه السلام.
وتمثّلت في غيرتهم وأحقادهم الصغيرة التي ظلت تكبر وتتضخم فخلقت داخلهم دافع الانتقام حتى حجبت عن ضمائرهم بشاعة المؤامرة وهول الجريمة التي يخططوا لاقترافها وروضت أنفسهم لقبول القتل ظنا منهم أنه ان قتل يوسف كفيل بحل مشاكلهم مع أبيهم يعقوب
"اقتُلُوا يُوْسْفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرضاً يَخْلْ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْما صَالِحِينَ".
الخوف وتأثيره النفسي |
سورة يوسف والأحداث البارزة فيها
ثمة صراع يستعر في نفوسهم بين الخير والشر خلق واقعاً محكوماً بنية التوبة قبل اقتراف الجريمة ؛سببه وجود يوسف الذي يحول بينهم وبين محبة والدهم وبزواله يتفرغون للعبادة وأسباب الصلاح.
لكن ثمة انكسار حدث على هذه النية جعلهم يتراجعون عن خيار القتل الحقيقي ليحل محله الإبعاد بإلقائه في غياهب الجب
"قال قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَفْتُلُوا يُوْسفَ وَأَلْقُوْهُ في غَيَابَةِ الْجْبٍ يلْتَقِطَةُ بَعْضُ السَّيارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ " ولعل إرادة الله قد قدرت أمراً لابد من إمضائه وإتمامه بثبات وتمكين "وَأَوْحَيْنَا إِلَيْه لَتْتنبئنهمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعْرُونَ".
بعد مرحلة التخطيط أقدم الأخوة على التنفيذ مستغلين قدراتهم اللغوية والتأثير النفسي على والدهم ؛ فزادت مخاوفه وهواجسه قلقاً وحيرة حين خاطبه المتآمرون
"قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأَمَنَا عَتى يُوْسْفَ وَإِنّا لَهُ لَناصِحُون " فحكموا على والدهم بالحزن وعلى أخيهم بالقتل "قال إِنّي لَيَحْزْنني أَنْ تَذْهَبُوا به وَأَخَافْ أَنْ يَأكْلَهُ الذئبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ قَالُوا لَئنْ أكَلَهُ الذئب وَنحْنْ عصْبَةٌ إنا إذاً لَخاسِرُونَ ".
وجاء الذئب وصف تعلل به يعقوب حين أحس إمارات كيدهم وحقدهم. ولعله قصد الذئاب الداخلية في نفوسهم "؛ مما يكشف مدى خوف يعقوب عليه السلام من عظمة رؤيا يوسف عليه السلام وحربه على كتمانها عن إخوته ؛ فهو يعي تأويلها جيداً.
ويدرك عدم قدرة أبنائه على فهمها في هذا الظرف لانشغالهم بشيء أعظم وأخطر ناتج عن تفجر انفعال الغيرة عندهم، وما سيبقى عليه من انفعالات وقرارات مصيرية.
اقرأ أيضًا :"أنامل عربية تفتح باب الهواة للكتابة".
سورة يوسف وشرح الخوف
تتداخل صور الخوف في هذا الظرف ؛ إذ يقابل الخوف الذي اعتلى قلب الوالد يعقوب عليه السلام على يوسف من إخوته خوف في قلوب أبنائه: خوف يصطبغ بصبغة استعلائية وتنافسية غاب عنها صوت الضمير وحضور القلب.
مردها ظن خاص مبني على فهم يكشف مدى ضبابية رؤية الأبناء في تحديد مشاعر الأبوة.
وضرورة أن يكونوا هم من يجب أن يحظوا بالرعاية والاهتمام لأنهم الكثرة وللمنفعة التي يقدمونها ' ؛وهو أمر مقبول في المجتمعات البدوية "إِذْ قَالُوا لَيُوسفُ وَأَخوه أَحَبُ إلى أَبِينا مِنّا وَنَحْنْ عُصْبَةٌ إنَ أَبَانَا لَفي ضَلالٍ مُبِينٍ "
فقد خافوا على مكانتهم من قلب أبيهم ورعايته وماله خوفا جعلهم يحيدون عن جادة الصواب.
لأن قيمة العدل داخل نفوسهم نحو مشاعر أبيهم قد اضطربت في توزيع الحب و الرعاية بينهم وبين أخيهم يوسف مكونة عقدة الأخوة ؛و لكن ثمة غشاوة أعمتهم عن رؤية الحقيقة، فازدحمت مؤشرات الغيرة في داخلهم.
وأمعنوا في الاستماع لصبوتها؛ لذا قرروا التخلص ممن يعيق مبتغاهم. واتخذوا الأسباب لذلك مرتدين أقنعة زائفة يتراءى منها الحب والأمان في حين أنها تضمر الغدر والخيانة؛ رحلة لعب وترفيه: "أَرْسِلَهُ مَعَنَا غَدَا يرتعْ وَيَلْعَبْ وَإنَا لَهُ لَحَافِظُونَ".
بقلم الأستاذة الدكتورة: "عفاف سعيد البديوي"
_أستاذ علم النفس التعليمي المساعد والاحصاء التربوي_
احسنت دكتورة مقال مفيد ومهم
ردحذفحقيقة سورة يوسف قصة رائعة وفيها إضاءات وإشارات كثيرة لدواخل النفس البشرية
ردحذفمقال جميل جدا
سورة يوسف حكمة وعظة .
ردحذف