حول الكعبة |
جولة حول الكعبة
اعتادت ذبابة أن تدخل من النافذة المكسورة كل يوم إلى بيته.
لم يكن الفقير عاجزاً عن الاتيان بزجاج جديد لنوافذ بيته المكسورة لكنه لم يكن يعرها أي اهتمام ظناً منه أنها قدره المحتوم ومن الصعب تغييره!
لم يستطع منع الذباب من دخول بيته والطواف حول القمامة كل يوم.
كان بيته بسيطاً جدا، رطب الجدران هش السقف متصدع الأركان.
قديم الطلاء لا خدمات تدعمه بعيد من الخط الرئيسي.
كان ذلك الضعف يشجع الذبابة على الحضور كل يوم في موعدها لتستفزه بضجيجها العارم تصبه في طبلة اذنه كل صباح.
لا جدوى من الهروب منها الا تفقد القمامة في المطبخ واخراجها.
ثم تطير الذبابة ويطير معها النوم وهكذا كانت حياته.
جولة حول الكعبة في حلم الفقير...
" الفقر والبرد والذباب ضدي"!
كان كثيرا ما يردد جملته الساخرة وهو يهش الذباب في فصل الصيف ليهشم عظمه برد الشتاء كأنهما جلادان
يتناوبان أمر تعذيبه وتلك النافذة المكسورة تنتظر حلاََ ترسل إليه الذباب تارة ليفهمها وتارة أخرى ترشقه بصقيع البرد.
لكنه ظل يحلم بـــ " جولة حول الكعبة " يغسل بها جنبه المكلوم وروحه الوجيعة فاستكثر الانفاق عليها وغرها من حلمه ما غرها من صبره وظلت تلك الذبابة تستفز كمده كما تستفز الرياح السنابل.
الكعبة |
يأس الفقير من كل شيء إلا من جولة حول الكعبة
كان الفقير يشعر أن كل شيء في الحياة ضده حتى أنه استسلم لإزعاج تلك الحشرة الوضيعة المترفعة!
وكان يجمع دراهمه طمعاً في الحج لا يصرف منها إلا شيئاً يسيراً في مطعمه ودوائه الضروري.
وعندما اكتمل النصاب وتأكد أنه بإمكانه أخيراََ الذهاب لأداء فريضة الحج، بادر سريعاً في الإجراءات وقطع التذاكر.
وصل الفقير مكة المكرمة وبدأت أصوات التلبية تدوي مسامعه فيقشعر لتلك الذبذبات المقدسة بدنه ويلين قلبه وتدمع عيناه.
كانت نبضات قلبه سريعة جداً، شعر أن قلبه يركض باتجاه الكعبة المشرفة قبل قدماه.
لمس جدار الكعبة وانهمرت دموعه وأخذ يلبي بصوت عالٍ جداً..
انها الحقيقة المطلقة والجبروت الذي لا يعلو عليه جبروت والحق المحض والنور المنبلج من صدور تفيض بالتوبة والاوبة.
كانت الذبابة الصغيرة تنظر إلى ذلك المشهد بحسرة وغيرة وتعجب.
بدا لها الأمر مزعجاً للغاية فالرجل الفقير لم يعد يخجل من فقره ولا نسبه ولا سبيل إلى ازعاجه وهو في رحاب الله يهيم بقلبه غير مبال بها وبذلك الضجيج الذي اعتادت أن تمزق به خيوط هدوءه وسكينة روحه!
لم تكن الذبابة تتغذى من القمامة كما كانت تتغذى من ازعاجه وزعزعة سكينته وراحته. حاولت أن تأخذ جولة حول الكعبة لعلها تلفت انظار الحاضرين إليها عبثاً..!!
أسرعت إلى الرجل الفقير الذي طالما ازعجته وخرمت طبلة اذنه بضجيجها لكنه لم يأبه بها!
كان ضجيجها خافتا لا يسمعه سواها فصوت الحق يصدح في الافاق والتكبير يكسر جبروت كل صغير!
وجدت نفسها تضج في مارثون الروح وحدها تذكر الحاضرين بتعاسة المادة وقذارة الغريزة العفنة!
وجدت نفسها تصارع بجناحيها الملطخين بسوء نواياها أمواجاً متلاطمة من النور المبين والنوايا الطاهرة!
حاولت تذكير الفقير بحياتها معه وتلك الذكريات البائسة عبثاً فقلبه يتجه إلى قبلة روحه ومنتدى فؤاده الأوحد!!
اقتربت من أذنه ملمحةً بوجودها علها تسرق القليل من اهتمامه أو تشوش طمأنينته كعادتها ومهارتها التي لا تجيد سواها لكن الرجل انغمس انغماسا كلياً في تلك الرحاب الطاهرة ونسى جسده البالي وترك لروحه فرصة التجديد والارتواء.
جولة حول الكعبة حين يمحق النور الظلام
وظلت الذبابة تطوف معه محاولة التصريح بوجودها لكن طوافها لم يكن إيماناً واحتساباً إنما رغبة يائسة في نشر
ضجيج المادة العبثي في عالم الحقيقة المطلقة والوعي الكامل والتجرد من هفوات النفس في سبيل ارتقاء الروح.
وفي المساء أوى الفقير إلى مسكنه ليجدها تطوف حول رأسه طوال الطريق فهشها بكفه الوضيئة ببساطة وزهد مرددا:
" عودي ايتها الذبابة البائسة إلى قمامتك التي تفخرين بانتسابك إليها فلا مكان لمثلك في البقاع الطاهرة".
اختفت واختفى ضجيجها على الرغم أنها كانت لا تزال موجودة لكن اذنه لم تعد تكترث بصراخها ولا تلتقط ذبذبات
صوتها الخافتة المتشبثة بمشاعر العار التي ترغب في تصديرها إلى الحياة والأحياء في محيط من الوعي الساطع والقناعة المكتملة!
لم تعد استعارة المكانة الوهمية ذات الزخرف الزائف تثير فضول الرجل بعد خلعه لرداء الوهم وارتداءه لإحرام الرسالة والهدف الوجودي !
إنها الإنسانية في أبهى حللها و أرقى صورها أن يعلم الانسان أن لا شيء في الوجود أهم من تلك الروح التي تتوهج بداخله وترتبط بخالقها.
ذلك الضجيج الذي تحاول خلقه كان صخباََ يقظّ مضجعه يوماً ما, لكنه بات مجلبة لسخريته بعد استنارة روحه وادراكه لحقيقه لزوم وجود الأضداد كلزوم وجود الأنداد.
وحين أدرك ما هيتها واطمأن، عادت الذبابة تبحث عن بائس آخر لتصدر إليه ضجيجاً تمثلته في ذاتها وتبنته كرسالة تعبر من خلالها عن وجودها.
بعض البشر يقتاتون الاحزان, يشعلون بها فتيل أرواحهم النارية, يصطلون بنار ظلم البشر, فإن عرفت الجحيم الذي يقتنونه في افئدتهم المظلمة لعرفت لماذا يصدرونه للآخرين.
"ولاشفقت عليهم كثيراََ بحجم ما يطمحون إليه من وجعك."
همسة:
إن ماهية المرء تتمثل في الرسالة التي تبناها وتمثلها في وجوده لينشرها إلى الحياة والأحياء من حوله.
فإن كانت رسالته هي منح الخير ونشره أياََ كان نوع الخير فهو عامل من عمال النور.
وإن كانت رسالته هي نشر الأذى والحاقه بالحياة والأحياء فهو شيطان يعمل في نشر طاقة ظلامية.
أيا كان اسمه او ثوبه او دينه لا يهم، سيظل شيطان ذو رسالة عوراء.
بقلم الأنامل اليمنية :
"زبيدة شعب".
انقر هنا لزيارة صفحتنا على الفيس بوك
احسنت سلمت يداك
ردحذفيا رب زيارة قريبة.. 🤲
ردحذف