رواية هرارة الرماد |
رواية هرارة الرماد الجزء الثاني عشر
رواية هرارة الرماد ومشهد مؤلم في ذاكرة العنقاء
كانت في سفِل الأبقار تحلب بقرتها فدوى صوت الخضر ارجاء القرية وهو يؤذن لصلاة الظهر. كان له صوتاً جهوراََ يظنه السامع أذان الحرم المكي..
توقفت العنقاء عن حلب البقرة وأغلقت بكفيها اذنيها. نظرت إليها البقرة كأنها تسألها عن سبب نفورها من سماع الآذان! سالت دموع العنقاء واشتد كربها وذهبت بذاكرتها إلى طفولتها البعيدة.
_ "ادخل، حياك الله "
_ "أين هي البنت المريضة "
_ "هذه هي يا ولي الله.. لها فترة لا تأكل ولا تشرب "
_ "حسناً ناولني حبل وصميل "
أخذ الراقي يربط الطفلة بالحبل ثم بدأ يقرأ عليها القرآن بصوت عالٍ..
خافت الطفلة بقوة واخذت تصرخ بقوة حتى بح صوتها وشحبت نبراته!
التفت الرجل إلى الشيخ مفرح وقال له بنبرة صوت واثقة:
_ "هذا هو الجن الذي يصرخ وليست هي.. ناولني الصميل "
بدأ المقرئ يضربها وهي تصرخ بصوت يتمازج مع رعود الشتاء خارجاً.
وحولها سبعة أخوة أشداء لم يذودوا دون جسدها الضعيف الذي يقرع بالصميل!
وأباها شيخ القرية الذي يهابه الإنس والجن واقف ينظر... وينتظر خروج الجن منها.
أغشي عليها من شدة الألم والرجل الضخم ذو اللحية الكثة يؤذن في أذنيها بصوت لا فرق بينه وبين ذلك الرعد المجلجل خارجاً.
رواية هرارة الرماد وحوار مع الجليس الوحيد
فتحت العنقاء عينيها بعد أن توقف الخضر عن الأذان ورأت البقرة كأنها تشاركها البكاء. مسحت بحنان على رأس البقرة وغدت تناجيها:
"يقولون أني مضرورة... ويتذرعون بالله كي يضربوني "
خلعت ثيابها وكشفت عن أكتافها وتمتمت بصوت منخفض:
"انظري كيف فعلوا بي، لقد ضربوني ضرباً مبرحاً ثم أحرقوني لأني كنت مريضة ولم استطع تناول الطعام معهم "
كانت البقرة تحدق فيها كأنها تفهمها فأضافت العنقاء : "لو كانت أمي حية لما سمحت لهم بضربي أليس كذلك! لقد رأيتك وأنتِ تذودين دون ولدك ..كانت لي أم حنونة مثلك لكنها ماتت..
ماتت في عام الجراد ولم ترى وجهي... زوجة أبي فقط من رأته واشبعته صفعا واشبعتني ظلماً"
رواية هرارة الرماد والاستجواب الأخير
سمعت العنقاء صوت نظير يصعد مسبحاً في الدرج فتوقفت عن البكاء والحديث مع البقرة ومسحت دموعها ثم صعدت بسرعة. فبادرها نصير يسألها في ما سمعه من أهل القرية:
"قولي لي يا بنت مفرح ، قولي لي يا بنت الرجل الأصيل ماذا كنت تفعلين خارج الدار في ذلك الوقت عندما هاجمك الثعبان؟ "
ارتبكت العنقاء فقد وجدت نفسها محاصرة بين ذكريات الماضي وذكريات الحاضر: "هه… خرجت لكي.. أجلب الماء"
لكن نصير كان مصراََ على الحصول على إجابة مقنعة يعود بها إلى الناس: "تجلبين الماء من أسفل البيت من بين الصخور والتين !"
فأسرعت هيا بالإجابة: " فقط هربت عندما رأيت الثعبان لكني كنت ..."
فقاطعها بلسان شك وريب: " هربت من الثعبان هه… خير يا بنت مفرح"
لم يصدق نصير رواية العنقاء حول جلب الماء فهو يعلم أكثر من غيره أنها لا تقرب الماء إلا للضرورة القصوى!
قرر نصير أن يبقى في بلاده فقد جمع من الأموال ما يكفيه وقد اشترى من الأرض ما يغنيه ولازال في قلبه شيء من ولد يحمل اسمه !
فلا قيمة للمال بغير ولد، ولا قوة للبنات بغير سند كما هو سائد على تلك القمم من وصاب العالي.
وفي تلك الأيام، انتشرت في القرية جماعات اطلق عليهم الوصابيون اسم المجاذيب بسبب طقوسهم التي لم تكن تبدو منطقية بالنسبة لهم. لكن أهالي المنطقة كانوا أهل مرونة وألفة يتماهون مع أي وضع ومع أي جديد.
رواية هرارة الرماد وفقدان الفهم لمن حاول أن يفهم
وفي إحدى الأيام، شد نصير الفضول إلى تلك المنطقة التي حاصر فيها الثعبان زوجته العنقاء.
كان يشعر أن هنالك شيئاً غريب تخفيه عنه، وبعد غروب الشمس استأذن منها كي يصعد للصلاة على سطوح الدار بينما كانت هي منشغلة في صنع (الذيف) من سعف النخل .
كانت تحب صنع الذيف وتجد في تلك المهارة التي تجيدها متنفس لروحها المنهكة. صعد نصير إلى سطوح المنزل، ولما تأكد من غفلتها عنه نزل الدرج متسللاً وخرج إلى ذلك المكان.
اقترب من المكان يتفحصه بعناية فلم يجد شيئاً. وقبل أن ينصرف، لمح بين الصخور شيء وكأنها خرقة قماشية.
أزاح الصخور عن تلك الخرقة الملفوفة بعناية وبدأ بفتحها ليجد أخيراً رقعة مكتوب عليها بعض الأوراد والأوفاق والطلاسم الغريبة!
وعندما حاول القراءة سمع دوي قوي في أذنه تبعه دوار عجيب وصوت الخضر يملأ عقله بتلك الجملة:
"عبس عبوس سلط الله عليك شر النفوس "
شعر نصير بتشويش في عقله وضيق في فؤاده ولم يعد يعي أو يفهم شيئاً وبات يهذي كما يهذي الخضر ويركض في المجابي والأودان، يشد شعره ويصيح بأعلى صوته!
وشاع في القرية خبر جنونه الصادم! لم يكن من أخوة العنقاء إلا أن امسكوا به وقاموا بسلسلته في إحدى غرف بيته عند زوجته رحيمة. وصارت رحيمة تدخل عليه كل يوم سجنه لتطعمه وتسقيه وهو في اضطراب عظيم لا يعرف أحد!
وماذا بعد جنون نصير؟
وتولى مسؤولية الانفاق على عائلة نصير بنفسه. كانت ريحانة الصغيرة في عامها الحادي عشر. وكانت تستغرب تلك الوحدة وتسأل نفسها باستمرار ذات السؤال:
"اوليس لأمي أهل واخوة يذودون عنها وعن حقها؟ "
لكن تلك التساؤلات كانت كموج زائف يزول مع ارتطامه بأول صخرة من صخور الواقع.
رواية هرارة الرماد ولمسات العقرب الأخيرة
في يوم من الأيام تحنت العنقاء وحنت الطفلة مالكة ذات العامين ونقشتها نقشاً جميلاً بالحناء وكانت ريحانة تحب الحناء وكانت كلما ذهبت لرعي الأغنام مرت لزيارة اختها شوقاََ وحباً.
دخلت ريحانة دار ابيها لتجد قدمي اختها وكفيها محمرين من جمال تلك الحناء فأعجبها ذلك النقش كثيراََ وتوسلت العنقاء أن تنقشها كأختها فدنت منها العنقاء بخبث وقالت:
" بشرط واحد، عندما تذهبين للرعي قولي لأمك أن رأسها مليئ بالقمل و خذيها إلى منطقة على حافة الوادي لتنقية القمل منها، وعندما تجلس قومي بدفعها إلى أسفل الوادي"
نظرت إليها ريحانة بعينيها الخضراوان ببراءة قائلة:
"لكن امي ستموت أن سقطت!"
احتضنتها العنقاء ضاحكة بخبث وهمست في أذنها الساذجة:
"لن تموت فأمك ملاك طاهر، ستذهب لتعيش في الجنة مع الملائكة"
صدقت الطفلة ما قالته العنقاء عن حياة الملائكة واحبت أن ترى أمها وهي تتحول إلى ملاك متوج، وببراءة أو بجهل
انتظرت حتى حانت اللحظة المناسبة ودفعت بأمها إلى أسفل الوادي وانتظرت حتى ترى تتويجها لكنها لم تسمع سوى صرخة أمها في غياهب الموت التي انقطع حسيسها ..
لتصمت الكائنات في قلب ريحانة وتصمت الحياة مع ذلك الصوت الذي انقطع. عادت حزينة واخبرت العنقاء بما حدث من أمر أمها فاستبشرت العنقاء وسرها ما حدث وغدت تهدد ريحانة بفضحها أن هي رفضت لها أمراََ.
قررت العنقاء الحاق العار بضرتها التي تلاشت من الوجود كما تتلاشى قطعة السكر في الماء وقررت أن تخبر أهل القرية كلهم بأن ضرتها لم تصبر على خدمة زوجها المجنون وهربت مع أحد الرجال من خارج القرية.
وما كان منها إلا أن أسرت بهذا السر لداية القرية أم علي وهي تعلم أنها وضعت سرها في البئر التي يشرب منها أهل القرية ومواشيهم.
فما لبثت أم علي برهة من الزمن إلا وقد قامت بنشر خبر هروب رحيمة للجن والأنس والطيور بل ذهبت إلى المقابر واخذت تدعوا لهم واخبرتهم بفضيحة رحيمة التي صارت حديث الموسم والناس!
هنا كسبت العنقاء جولتها وازاحت حجر العثرة أمام استيلائها على كل أرض نصير وأخاه نظير. وجعلت من ريحانة خادمة لها تهددها بفضحها وتسليمها إلى القصاص إن لم تطع أوامرها الصارمة.
وبدأت بسكب قيح مرارتها في كأس ريحانة النظيف. أما رحيمة فقد التقطها ملك من ملوك الجن يدعى فريع، وتزوجها ولم يجد الناس جثتها فتأكدوا ومالت أنفسهم إلى ما يشاع على لسان أم علي التي حملت الوزر كله.
وانتقلت رحيمة من عالم إلى آخر وصارت ملكة مملكة كاملة لملك الجن فريع..
وجدته عند رأسها وظنت أنها في كابوس مخيف فاقترب منها وبرر: "نحن قبيلة لا نقارب الإنس إلا.. من وهب لنا نفسه "
فتساءلت بتعجب وخوف: "وهل وهبت لك نفسي؟ "
فقال لها مؤكداََ حقه فيها: "كان الوادي سحيقا وعتقي لك من الموت له ثمنه"
صارت رحيمة زوجة لملك ملوك الجن وابنتها خادمة لزوجة أبيها!
وغدت رحيمة تبحث عن وسيلة تصل بها إلى ابنتها ريحانة لكن البرزخ بين العالمين كان غريباً والمكان والزمان لم يعودوا كما عهدتهم هي.
انقر هنا لقراءة الجزء 13 من رواية هرارة الرماد
شاهد فيديو نحن مدينون لأولئك الذين جاهدوا في انتشالنا
رواية هرارة الرماد بقلم الأنامل اليمنية
" زبيدة شعب "
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معاني المسميات اليمنية الجديدة في رواية هرارة الرماد
المجاذيب/ جمع مجذوب وهي تسمية أطلقها الناس على فئة متطرفة من الصوفيين
المجابي/ جمع مجبى وهي قطعة أرض زراعية
الأوفاق/ جمع وفق وهو نوع من الطلاسم والأحراز
حتى الشخص السيء ما انولد سيء في سبب... ابدعتي❤️
ردحذفنعم لكل امر تبرير، ولكل نموذج للحياة فلسفة
ردحذفروايه مشوقه وممتعه موفقه ان شاء الله
ردحذفيوم بعد يوم تصبح القصة مشوقة اكثر 👍
ردحذف