رواية هرارة الرماد |
رواية هرارة الرماد الجزء الحادي عشر
رواية هرارة الرماد ومكتوب الفاجعة المتأخر
كان يؤدي العمرة باطمئنان تام وإذا برجل يعرفه يقترب منه ويناوله رقعة من الورق القديم:
"نصير لدي رسالة لك وصلت مع أحد القادمين من اليمن "
نصير متعجباً من أمر المكتوب لكنه أخذه بهدوء وبدأ يقرأه بصمت.
تفاجأ الرجل بنصير تغيرت ملامحه وتلبدت الغيوم في عينيه وطفق يهلل ويكبر ويجلس ثم يقف ثم جلس ثم استسلم للبكاء والحوقلة:
"لاحول ولا قوة الا بالله "
أدرك الرسول أن الكتاب قد حمل مصيبة واقترب من نصير محاولاً تهدئته وليعرف منه ما احتوت عليه الرسالة. وفي موسم ( خبيط الحب ) بدأ نصير يشق رحلته الطويلة متجهاً إلى بلده.
كان الناس يضربون سنابل الحب بالعصي حتى تتخلى عن مكنوناتها من الحبوب ثم يفصلون الحب عن سنبله ويقومون بتنقيته من الشوائب الكبيرة.
رجع نصير من الغربة مفجوعاً بخبر موت أخيه وأمه. وصل داره ليراه مظلماً وقد غاب وجهها عن أركانه ودخل غرفتها يقلب أدوات التي رحلت رحيل سحابة غيث عند اكتمال رسالتها.
أخذ يتذكرها ويشم عطر الكاذي الذي تركته ويبكي وذهبت به الذاكرة إلى حديث أخيه الذي كان يردده دائماً:
"ستموتين ولن يسقيك نصير شربة ماء "
اختنق بالدمع وناح كما تنوح الحمام كسير الفؤاد منزوع القوة. اقتربت منه رحيمة تحاول تهدئته وتهوين مصيبته فأدخلته حديث طويل تضمن كل الأحداث.
أخذهم الحديث حتى ذكرت له كل من مات من القرية وكل من أصيب بالعمى كان الجدري الأول فاجعة عظيمة تهون أمامها فاجعة عام الجراد، فاجعة عبرت تلك الجبال الخضر تاركة على وجوه أهلها الطيبين علامةً توثق عبورها القاتل.
رواية هرارة الرماد واستسلام نصير للقدر
تمتم بتسليم: "اين دفنتم امي ونظير؟ "
ردت عليه زوجته رحيمة: "في تلك الأرض القريبة من عقمة التتن "
تسائل بحيرة: "لماذا في ذلك المكان بالذات!"
فوضحت له: " كثر الأموات وامتلأت المجنة فتبرع الشيخ مفرح بتلك البقعة لأمك وأخيك.. هي بقعة خضراء وخصبة "
عبر عن امتنانه: "جزاه الله خير الجزاء... لم يقصر.. هكذا تكشف المعادن "
لم يستطع نصير المكوث طويلاً فقد شده الحزن لزيارة أهله في قبورهم وقراءة الفاتحة عليهم. ذهب إلى المقبرة التي تم دفنهم فيها، ليتفاجأ أن قبر أخيه منبوشاََ خالياً !
بحث عن رفاته ليجد ما تبقى من عظامه خلف إحدى الصخور فأدرك أن الضبع قد نبش قبره وأكله. اخذ يلملم عظام أخيه ويبكي مردداََ:
"اولم تكن شديدا شراباً للدم فلماذا ضعفت؟ أولم تدفن الجمر على رأسها في سطوح الدار فلماذا سبقتها؟ "
وضع رفاته في القبر وغطاه بالتراب واحاطه بالأحجار وسقاه وقرأ عليه الفاتحة وصوت أزيز صدره قد تمازج مع تراتيله من الحزن.
ثم انتقل إلى قبر أمه ليجد شجرة العِلب قد نبتت عليه وكثير من طيور الجولب قد بنوا أعشاشهم عليها.
دعا لها كثيراََ وغدى يغني باكياً:
" اين اللقاء يا اماه اين اللقاء…. رحت اعتمر ونسيت والموت ما نساكي ……كيف الحياة بعدك يا اماه كيف البقاء…. يا ليت والموت يا خذني وراكي "
مكث نصير فترة من الزمن حزيناً لا يختلط بأهل القرية. واعتادت العنقاء على زيارتهم والتردد إلى بيتهم مرتدية زي الحمل الوديع مقلمة قرونها مخفية أنيابها تحت زيفها.
استراح قلب رحيمة لها وغدت صاحبتها المقربة واختها التي لم تلدها أمها. كانت تعاونها في حلب البقرة وصنع
الخبز؛ تمشط لريحانة شعرها وتجدل لها ضفائرها ذات اللون الأسود الفاحم فتبدو ريحانة وكأنها أمها بوجه طفولي صغير مليئ بالبراءة مفعم بالسحر.
اقرأ ايضا :"قصة جولة حول الكعبة قصص قصيرة ".
كن يصنعن الفتة باللبن ويأكلنها مع السمن سوياً؛ ويتناولن (الكشد ) المسلوق معاً وتجمعهن أوقاتاً مليئة بالألفة والمحبة حتى اعتادت عليها رحيمة و أنست بها.
وتخلص نصير من حزنه مستعيناً بتقادم الأيام وعاد لعمله بشكل طبيعي لكن كلمات امه المحفورة في جوفه قد زاد عمقها وتأثيرها وهو يرى أخاه قد ودع الحياة مبتور النسل وترك أرضه ليرعاها ابن عم العنقاء الغريب.
رواية هرارة الرماد وشبكة العنقاء
ذات صباح مشرق بشمس الربيع الدافئة، كانت الحكيمة الثرثارة تحضر إحدى النساء في القرية وقد برعت في نقل أخبار الناس إلى الناس وكان من لديه أمراً يريد نشره على
الناس، ما عليه إلا أن يودعه اذنها المخرومة فتعده أن لا تكلم به إنسي ولا طير. ثم تدور على القرية كلها تخبرهم بذلك السر وتطلب منهم ألا يخبروا به أحد!
سمعت العنقاء صوتها عند باب بيتها تردد بصوت مسموع مستأنسة الدخول:
"هل لديكم غداء يا أهل البيت "
رحبت بها العنقاء ترحيباً حاراً وأقسمت عليها مشاركتها طعامها على غير عادتها ثم جلست تستمتع لحديث الحكيمة الشيق بإصغاء.
أخذ الحماس حكيمة القرية وبدأت تروي قصة حصلت معها قائلة: "طرق الباب بعد غروب الشمس ولما فتحت الباب،
وجدت رجلاً غريباً تبدو عليه علامة الخوف فسألته ماذا يريد مني فقال لي أن زوجته تلد وحدها و ناشدني الله أن احضرها"
امسكت العنقاء الخيط من أوله وصبت فنجال من القهوة ( القشر ) وناولت الحكيمة وقالت متظاهرة بتصديقها:
"هه.. فماذا فعلت معه؟"
شربت الحكيمة من القهوة رشفة وأكملت حديثها الشيق:
"ذهبت معه لوجه الله.. فأخذني إلى وادي بعيد لا يسكن فيه أحد ولم أجد فيه سوى بيته؛ لكني لم أخف.. دخلت الدار لأجد امرأة جميلة جمال الحور العين، شعرها أطول
منها وعيناها كأنها فناجيل القهوة اتساعاً تتعذب من المخاض فساعدتها"
فتحت العنقاء عيناها مرسلة إيحاء التشويق و الاهتمام لتزد من حماسة العجوز لتكمل قصتها : "لم
يطاوعني ضميري على طلب المال من تلك الأسرة الفقيرة وشعرت بالرحمة تجاههم والشفقة فقال لي الرجل أن ليس لديه ما يعطيني!
لففت لهم ذلك الصغير الجميل وعصدت لها عصيداً على قليل من السمن واللبن ثم انصرفت مستأذنة لأعود إلى بيتي مبكرة قبل خروج الطاهش.
لكن الرجل أعطاني ربعة من سعف النخل وقال لي خذيها وانتبهي أن تفتحيها قبل أن تصلي إلى البيت!"
غيرت العنقاء جلستها متحمسةً لتلك الحكاية:
"ها.. وماذا وجدتِ فيها؟ "
أكملت الحكيمة حكايتها المختلقة:
"وصلت إلى منتصف الطريق وشدني الفضول أن أرى ما بها ففتحتها وإذا بها فحم أسود! لم أكن لاحتاج الفحم وبيتي
مليئ بالحطب فسكبته في الطريق وعدت إلى البيت بالربعة فارغة وعندما وصلت البيت، وجدت فيها فتاتاً من الذهب عالقاً عليها من الداخل فعلمت أني كنت عند أحد الجن وأن ما أعطاني إياه كان كنزاً فقدته بفضولي "
ضحكت العنقاء ضحكة لم تضحكها من قبل وهي أكثر، الناس علماً بكذب الحكيمة وأخذت تردد:
"سامحك الله … أرسل الله لكِ كنزاً فأضعته بالشجن"
كانت العنقاء تعلم بخصلة هذه الداية المشؤومة فالعقارب تعرف بعضها جيداً؛ فقررت الاستفادة منها فناولتها ربطة من أفضل القات المقطوف.
رأت الداية أم علي القات فسال لعابها وتظاهرت مباشرة بالطيبة من شدة سعادتها بتلك الربطة، وأبدت احترامها المخادع للعنقاء التي لا يحترمها أحد في القرية وبدأت تسألها عن أحوالها:
" قولي لي يا ابنتي كيف حالكِ.. وماذا صنعت بك الرملة.. وهل لا زال أبوك مصراً على عودتك وترك مالك؟"
انتهزت العنقاء الفرصة وجاء وقت الخبر التي تريد من أم علي نشره، فتظاهرت هي الأخرى بالطيبة والوفاء وكن كالأفاعي تحاول كلا منهما لدغ الأخرى.
قالت العنقاء وعيناها تلمع دهاء ومكرا: "ابن عمي يخطط للزواج مني ليسيطر على أرض زوجي وأنا أكره ذلك وأخاف أن يكرهني أبي على الزواج منه غصباً"
اتسعت عينا الداية فضولاً وشربت ما تبقى من القهوة دفعة واحدة ليتسنى لها حفظ ما ستقوله العنقاء، فقد حصلت
على خبر الموسم الذي ستلمع به من جديد وستجذب به مسامع الفضوليين من أهل القرية لتكتسب مزيداً من الشهرة والاهتمام وسألت العنقاء فوراً وهي متلهفة للمزيد من التفاصيل:
"هل يعلم نصير ورحيمة بالموضوع؟ "
تظاهرت العنقاء بالخوف الشديد وأخذت تحذر الحكيمة من وصول الخبر إلى نصير بالذات:
" ناشدتك الله..لا أريد نصير بالذات أن يعلم ..يكفي هذا الرجل فاجعته في أمه وأخيه"
وأمسكت بقوة يدها ولم تفلتها حتى أخذت منها وعداً مِمن لا وعد لهم ولا ذمة أن يبقى الأمر سرا !
رواية هرارة الرماد وضرة كلبانية
ما أن خرجت تلك العقرب الثرثارة من بيت أختها الكلبانية إلا وقد حازت على حقوق النشر والتوزيع وانطلقت إلى
مزرعة نصير وأخذت تحذره مما سمعت ثم انتزعت منه قسماً أن لا يخبر العنقاء المسكينة أنها قد أفشت سرها!
وبتلك الطريقة سددت العنقاء سهمها بدقة وأصابت الهدف لم تخطئه مقدار أنملة!
عاد الرجل الطيب إلى داره وقد أحزنه ما سمع من تخطيط ابن عم العنقاء. وقد بات حديث امه يرن في فؤاده ويعبث بسكينة قلبه ويؤرق مضجعه.
ولما اتعبه الصبر ولاحظت رحيمة تضجره وانعدام ابتسامته سألته أن يصارحها بما يحز كبده وينحر بالحزن قلبه.
صارح نصير رحيمة بكل ما سمع به من الداية أم علي، فسكتت رحيمة قليلاً ثم استجمعت قوتها كاملة واقترحت
عليه أن يتزوج بأرملة أخيه ليحمي الأرض من الذهاب إلى أيادٍ غريبة وينجب ولداً يرثه ويكون سنداً لريحانة عندما يكبر.
وهكذا انتصر كيد العنقاء على ذكاء الرحيمة لتقع العائلة الطيبة في شراك تلك الكارثة المؤجلة. وبأقدامهم دخلوا حفرتها غير خائفين ولا مكترثين، ولم ينته الأسبوع إلا الكلبانية زوجة شرعية لنصير!
انقر هنا لقراءة رواية هرارة الرماد الجزء ال11
رواية هرارة الرماد بقلم الأنامل اليمنية
"زبيدة شعب".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رواية هرارة الرماد ومعاني الكلمات اليمنية الجديدة
موسم خبيط الحب/ موسم ضرب السنابل بالعصا لفصل الحبوب عن السنابل
المجنة/ اسم للمقبرة مشتق من الجنة
الكاذي/ نبتة عطرية يستخلص منها الزيت العطري
الكشد/ نبتة تشبه الفاصوليا
التتن/ اسم للتبغ
الربعة/ إناء مصنوع من عسف النخل
الطاهش/ حيوان ليلي مفترس
القشر/ قشور البن تصنع بها القهوة الخفيفة
كنت انتظره
ردحذفطريقة سرد أكثر من رائعة
ردحذفنصير المسكين
ردحذف👍
ردحذف